الفكر الإسلامي
علماء
الإسلام والعصر
(2/2)
بقلم : الشيخ
سلمان بن فهد العودة / الرياض
والذي عايش
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يدرك كم نحن بحاجة إلى استثمار وسائل الاتصال الكوني
ومتغيرات التقنية، والتعامل معها بوعي ورشد وعزم، وإلى موقف شرعي سواء بالقبول
المطلق، أو النسبي مما يسوغ فيه الاجتهاد والاجتهاد الجزئي؛ لكي يكون وفق رؤية
سليمة، وضمن تعاذر وتعامل أخلاقي وعلمي وحسن ظن.
إن الحضارة
اليوم – في نظري – تراث إنساني عام لا تملكه أي أمة من الأمم، ولا يحتكره شعب
محدد، الحضارة عمل بشري يعود على الإنسانية كلها بالنفع أو بالضر، ومن الخطأ أن
نقول عن الحضارة المعاصرة بأنها حضارة غربية فقط أو مسيحية لمجرد أن الغرب هو
الداعم الرئيس والصانع الأساسي لها، فأي حضارة معاصرة هي غنيمة لنا، لنا فيها سهم،
وللبشرية كلها غنمها وعليها غرمها، ووصلت الحضارة إلى هذا المستوى عبر تراكمات
وحضارات سابقة طوّرتها الحضارة المعاصرة واستفادت منها، وحولتها إلى عناصر ضمن
حضارتها، فهي استوعبت الحضارة القديمة، وأضافت إليها، وطورتها، وصنعت منها حضارة
معاصرة هائلة، فهي مبنية ضمن لبنات من منتج أممي قديم وحضارة يونانية والأقرب من
ذلك: حضارة إسلامية كانت أقرب الحضارات سببًا بهذه الحضارة المعاصرة التي تضمر
جانبًا كبيرًا من الخير والنفع الذي يمكن استثماره وتوظيفه، وجانبًا آخر سلبيًا
يمكن عزله واستبعاده، وهذا هو بالدقة ما يحتاج إلى فهمه والتعامل معه واستيعابه
علماءُ الإسلام المعاصرون .
وللحضارة
المعاصرة وجه عسكري كثيب يسهّل عملية الهيمنة الغربية، وتدخلها السافر في بلاد
الإسلام، وأمام هذه الهيمنة يأتي التساؤل عن دور العلماء، وأصح ما يمكن إطلاقه
وتحميله للعلماء في تحديد دورهم هو الانحياز للبناء الذاتي؛ لأن مشكلتنا ليست من
عدوان الغرب علينا بقدر ما هي مشكلتنا من أنفسنا والله عز وجل يقول: ﴿إنَّ
اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ﴾
(الرعد: من الآية11)، والغرب لم يتجرأ عَلينا إلا لضعفنا وهواننا واستخذائنا
وقابليتنا للاستعمار، أكثر من الاستعمار نفسه الذي أصبح نتيجة طبيعية لهذا الخور
والضعف والتخلف، والذي لاينفع نفسه لاينفعه الآخرون .
فتلخيص مشكلة
المسلمين في الغرب والآخرين والاستعمار هو نوع من الكسل العلمي عن تحمل أخطائنا
وضعفنا، فالانحياز للبناء الذاتي يعني تحمل المسؤولية العلمية والتاريخية عن
التخلف العلمي والتقني والحضاري المعاصر .
إن البناء
الذاتي يشمل كل أنواع البناء الذي يريده الله للحياة للاستفادة من زينة الحياة
التي سخرها الله لنا ووضعها لنا، ﴿إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ
زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، فهذا العمل هو
البناء على هذه الأرض، فنجاحنا اقتصاديًا يصب في ميدان نجاحنا في المعركة الكبرى:
معركة الحياة والوجود، وليست فقط معركة السلاح، والمتنبي يقول:
الرأي
قبل شجاعة الشجعان
هـو
أول وهـي المحــل الثاني
إن العالم
الإسلامي يحتاج إلى نهضة شاملة وحضارة أخلاقية وتنمية رشيدة، ولا يمكن جمع
المسلمين إلا على خطاب إسلامي يربطهم بربهم وإيمانهم ويحفزهم ضمن ذلك على العمل
والنهضة والإصلاح؛ ليضمن سلامته وبعده عن التوقف أو الانحراف. إن هذا العمل
والتوجيه والإرشاد نحو صناعة وعي إسلامي حضاري ويد مسلمة عاملة، ورأي إسلامي صادق،
إذا ارتبد بالنية الخالصة الصادقة فهو عمل إسلامي وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر،
ووجه من وجوه الإصلاح، فالمسلم القوي العامل خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف،
ولا بد أن يعلم المسلم المعاصر أن أسلافه قامت حضارتهم على أدب الدين والدنيا،
فأدب الدين ما أدى الفرض، وأدب الدنيا ما عمر الأرض، كما يقول الفقيه والعالم
الكبير.. أبو الحسن الماوردي.
لقد وَلَدَ
هذا العصر الحديث ألوانًا هائلة من الآليات والآلات والتقنيات المعاصرة
المحايدة،وليس من صالح المسلمين وينبغي ألا يكون مطلبًا لهم صناعة الصراع واستغلال
هذه الأشياء لإذكاء روح الصراع؛ لكننا حين نساق إليه بغير اختيارنا فمن حقنا
الدفاع عن حقوقنا وأراضينا وأنفسنا، هكذا علمنا الإسلام: يقول النبي ﷺ: (لا تتمنوا
لقاء العدو؛ ولكن إذا لقيتموهم فاصبرو)، ومن واجب العلماء أن يكون لهم دور واضح في
حماية المسلمين والدفاع عنهم، وربط المقاومة بالأصول الشرعية والحقوق الأخلاقية،
في توجيه وإرشاده؛ لكي لا ينحرف أو يزل عن مساره، فربما تحول إلى شهوة الصدام
والصراع بحد ذاته، وينتقل من كونه عملاً مدروسًا يقع في موقعه المناسب إلى ضربات
جنونية لا تستثني أحدًا حتى نفسها. ولكي تكون المقاومة الإسلامية متصلة بمنظومة
كاملة تتعلق بحياة الأمة، وليست مجهودًا فرديًا مشتتًا ربما في النهاية لا يصنع
شيئًا كثيرًا للأمة، ولو صنع بعض الضرر لعدوه، ويتحول من تحرير الأرض فقط .
وعند تأمل
العمل الإسلامي والجهد المبذول فيه يمكنني ملاحظة حشد الاجتهاد والعمل في المجال
السياسي، بمعنى أن العمل الإسلامي قد يبالغ في ترسيم السياسة، وتحضير وتقديم
الجانب السياسي إلى درجة أن يصبح ذلك حاكمًا على كل الجهد الإسلامي، بينما العمل
الإسلامي أوسع من ذلك وأعمق فهو عمل معرفي علمي، واجتماعي، واقتصادي، وتنموي،
وحضاري، وإيماني تعبدي، وإعلامي، وسياسي أيضًا، وحتى الواجبات الشرعية المتعلقة
بالسياسة هي منوطة بالمصلحة، فيمكن الحصول عليها بطرق مختلفة في ظل التقنية
الإعلامية والتطور الاتصالي الهائل، وهذا لا يعني إغفال هذا الجانب اليساسي، بل يعني
رده إلى نصابه المعتدل .
لقد آن الأوان
لأن يتخلص العمل الإسلامي من تبعة ظروف النشأة، ومن العُقد التي لازمته في بداياته
وبواكيره لينطلق إلى الناس وهو خليّ البال من المشاكل الداخلية والعُقَد، شجيّ
بهموم الناس وشؤونهم وقضاياهم.
لقد نشأ العمل
الإسلامي بهذا الشكل الحديث والصورة الحالية أيام سقوط الدولة العثمانية، ولهذا
حمل معه سمات تلك الظروف التي توصف بالقلق والحزن، وارتباط قضيــة الحكم والسياسة
والخلافة في الخيال الإسلامي مما أورثته همًا سياسيًا ثقيلاً، بينما يمكن أن ننظر
إلى قضية العمل الإسلامي في نطاقه الواسع، وأن تأخذ قضية السياسة محلهاالطبيعي من
غير إفراط، ودون أن تصبح قضية القضايا وكان الإسلام هو فقط أن نصل إلى الحكم، ودون
أن نعزل مسألة السياسة عن الفكر والعمل الإسلامي؛ فالبحث والتفكير في طريق معتدل
هادئ يخدم العمل الإسلامي وتياراته .
إن دور
العلماء والفقهاء والمفكرين الإسلاميين في هذا العصر يشمل حفظ التوازن لهذه الأمة
في القضايا العامة وذلك يتطلب نوعًا من الاستقلالية، فهم ليسوا معارضة سياسية تبحث
عن سلبيات السياسة لنقض كل ما يصدر من السياسي وتخطئته، وليسوا أيضاً عبارة عن
مجموعة في جيب السلطة أو بوق يتحدث باسم السلطة كلما شاءت أو أرادت إن تحليلاً أو
تحريمًا أو موافقة أو معارضة، وإنما لهم استقلال في الرأي والنظر ودينونة لله
سبحانه وتعالى فيما يأخذون وما يدعون بقدر المستطاع و ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، وعندهم تجرد من المقاصد الذاتية، التي تحرم
العالم لذة الحق والسعادة به.
ودورهم يتضمن
أيضًا قدرًا مهمًا من التواصل مع الناس وحفظ حقوقهم والدفاع عنها والقيام بأمر
العامة من خلال السعي للشفاعة والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة
والإصلاح بقدر المستطاع والصبر عليهم وخدمتهم في الأمور الاجتماعية، كل ذلك لايجعل
من العالم أداة للجمهور أو مترجمًا بسيطاً لكل ما يقولون .
وإن أطياف
الناس والمجتمع والسياسة وتيارات الفكر بحاجة إلى صفة الإنصاف التي فرضها الله على
عباده المسلمين وألزمهم بها، ولن يتحقق الإنصاف إلا بتصور مواقع الناس وأفكارهم كما
أراد بها أصحابها، يقول ابن حزم: من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه
يلوح له وجه تعسفه .
ولقد فرض الله
هذا الإنصاف والحكم بالعدل مع كل الناس حتى مع أعدائنا: ﴿وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلـٰـى أَلاَّ تَعْدِلُوْا اعْدِلُوْا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ﴾(8) سورة المائدة، ومع أصدقائنا ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، ومع الناس كلهم جميعًا ﴿وَأَقِيْمُوا
الوَزَنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيْزَانَ﴾ .
وإذا أردنا أن
نعمل بجد وقوة فعلينا أن ننصف أنفسنا أيضًا، ونحملها المسؤولية والتبعة، ولا يسر
أي مسلم أن يقرأ الخارطة فيرى أماكن الفوضى والعراك والاضطراب فيجد أنها فقط بلاد
إسلامية، وليس منطقيًا أن نلقى التبعية على اليهود والأمريكان؛ لأن هذا معناه عدم
إيماننا بوجود قدرة وقوة ومسؤولية علينا، وهذا لا يمكن تقبله بحال، فهو وسيلة
قديمة لزيادة الوهن والضعف في نفوسنا .
إن على علماء
الإسلام وقادته أن يتصفوا بالشجاعة لوصف أماكن الخلل والضعف والتخلف في نفوسنا
وعرض أدوائنا فالشجاعة معنى أخلاقي قوي لقول الحق والمنطق أمام الجميع فالدواء
والعلاج لا يستثني أحدًا .
إن العلماء
والدعاة والمفكرين أكثر ما يحتاجون إليه في هذا العصر هو اتخاذ الاتصال الحديث
وسيلة لقول الحق ونشره والتواصل فيما بينهم للتشاور ولعقد اجتهاد جماعي يقرّب
العلماء من بعضهم، فالاجتهاد الجماعي يتجاوز سلبيات الرأي الواحد، ويكون أقرب
لإدراك المسائل الحساسة من وجوه كثيرة ومقاربة واقعية لها، وجعل ذلك في صفة عمل
مؤسسي قوي يبعث النجاح والقوة على العمل الإسلامي ويكون لبنة في بنيان المسلمين،
وفي الحديث المتفق عليه (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا) .
* * *
مجلة الداعي
الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية
1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.